الكتاني والمريزق يرصدان مخاطر تٱكل الطبقة الوسطى بالمغرب

في ظل موجة غلاء معيشة غير مسبوقة وضغوط اقتصادية متزايدة تخيم على الحياة اليومية للمغاربة، يجد المجتمع نفسه في قلب نقاش مصيري وعميق حول مستقبل الطبقة الوسطى.

هذه الفئة التي طالما اعتبرت تاريخيا صمام الأمان الاجتماعي والمحرك الرئيسي للاقتصاد الوطني، تبدو اليوم وكأنها تقف على حافة الهاوية.

لفهم هذه الأزمة متعددة الأبعاد، يقدم كل من الخبير الاقتصادي عمر الكتاني والباحث في علم الاجتماع مصطفى المريزق، في حديث خاص مع بلبريس، تشخيصا مزدوجا يكشف عن جذور التآكل الذي يهدد هذه الشريحة الحيوية من المجتمع.

يبدأ الخبير الاقتصادي عمر الكتاني بتحليل دقيق للأزمة من منظور اقتصادي، مؤكدا أن تعريف الطبقة الوسطى يتجاوز بكثير مجرد أرقام الدخل الشهري. إنها، في جوهرها، مجموعة من الخصائص المادية والطموحات المعنوية التي تشكل هوية متكاملة.

وأضاف أن من أبرز هذه الخصائص الاستقرار الوظيفي النسبي الذي يوفر أفقا آمنا للتخطيط للمستقبل، والقدرة على الحصول على خدمات أساسية لائقة كالتعليم والرعاية الصحية، والتي أصبحت تمثل عبئا متزايدا مع تراجع الخدمات العمومية واللجوء المكلف للقطاع الخاص.

ويتابع الكتاني في حديثه مع بلبريس ’’يضاف إلى ذلك امتلاك سكن لائق أو على الأقل الاقتراب من تملكه عبر قروض طويلة الأمد، وهو ما يمثل حلم الاستقرار بالنسبة لملايين الأسر. لكن السمة الفارقة، حسب الكتاني، تكمن في القدرة على الادخار والاستثمار في مستقبل الأبناء، وهو ما يمثل جوهر الحراك الاجتماعي الصاعد.’’

هذه المنظومة المتكاملة من الخصائص التي شكلت حلم الطبقة الوسطى المغربية لعقود، باتت اليوم تحت حصار اقتصادي خانق.

يوضح الكتاني أن السياسات الاقتصادية الأخيرة، ورغم أنها كانت متوقعة، إلا أنها وجهت ضربات موجعة لهذه الفئة. فقرارات رفع الدعم عن مواد حيوية، وزيادة العبء الضريبي على الموظفين والأجراء، وتنامي المديونية العامة والخاصة، شكلت ثلاثيا فتاكا التهم القدرة الشرائية.

ولم يكن مفاجئا وفق عمر الكتاني،  أن يتوقع 80 بالمئة من المغاربة في استطلاع للمندوبية السامية للتخطيط استمرار التضخم وانخفاض مستوى معيشتهم. هذا الوضع انعكس مباشرة على شكل تراجع حاد في الاستثمار وتجمد في منح القروض البنكية، مما أدخل الاقتصاد في حالة من الترقب والجمود، يفاقمها الشعور بأن الأزمة الأوروبية ستلقي بظلالها الثقيلة على المغرب بحكم ارتباطهما التجاري الوثيق.

لكن إذا كان الاقتصاد يشرح “ماذا يحدث”، فإن علم الاجتماع يشرح “لماذا يحدث” ومن هو المسؤول. وهنا، يأتي تحليل الباحث مصطفى المريزق ليضيف بعدا سياسيا واجتماعيا لا يقل أهمية.

ويرى المريزق في تصريح خص به بلبريس،  أن التفاوت الاجتماعي المتزايد ليس قدرا محتوما، بل هو نتيجة مباشرة لـ “ضعف الفاعل الاقتصادي والسياسي” وقصوره في تحقيق تنمية محلية حقيقية.

والأخطر من ذلك، حسب المريزق، هو وجود ما يشبه “تحالفا طبقيا” بين النخبة السياسية والاقتصادية من جهة، والطبقة المستفيدة من الوضع القائم من جهة أخرى.

هذا التحالف غير المعلن يعمل على شل أي دينامية تغيير مجتمعي حقيقية، لأنه يرى في بقاء التفاوتات ضمانا لاستمرار امتيازاته، مما يضعف أي محاولة لمناهضة الاستبعاد الاجتماعي.

هذه الدينامية السياسية تنعكس بشكل مباشر على حياة الأسر المتوسطة. فارتفاع الأسعار ليس مجرد مشكلة اقتصادية، بل هو تجسيد يومي للإقصاء الاجتماعي.

ويشدد المريزق على أن الحل لا يكمن في إجراءات ترقيعية، بل في “مناقشة النموذج التنموي الجديد” بشكل مفتوح وصريح، وربطه بإصلاح شامل وعميق لمنظومات التعليم والشغل والصحة. فهذه المنظومات هي التي من شأنها أن ترد الاعتبار للفئات المتوسطة وتضمن لها خدمات عمومية عادلة ومستمرة، وتحميها من السقوط في براثن الهشاشة.

رؤية مشتركة 

تتلاقى الرؤيتان الاقتصادية والاجتماعية عند وصف التداعيات النفسية العميقة لهذا التآكل. فـ “حالة الإحباط والترقب” التي تحدث عنها الكتاني، يصفها المريزق بلغة أكثر حدة بأنها “ظلاموية وجوع سياسي” تنسحب على الطبقة الوسطى، مما يجعلها تفقد هويتها وانتماءها الاجتماعي.

هذا الفقدان للهوية يولد حالة خطيرة من فقدان الثقة في المؤسسات، وفي العملية السياسية برمتها، ويؤدي إلى استنساخ خطاب التراجع والتملص من القيم الحداثية التي كانت هذه الطبقة حاملة لها.

أما عن سبل الخروج من هذه الأزمة، فرغم أن الكتاني يلمح إلى بصيص أمل في السياسة المالية الحالية، معتبرا أنها الأكثر وعيا بحجم التحدي، إلا أنه يعود ليؤكد أنها لا تستطيع العمل بمفردها، فـ”يد واحدة لا تصفق”.

وهذا يتكامل مع رؤية المريزق الذي لا يرى حلا يأتي من الأعلى فقط، بل يشدد على ضرورة تشكيل “حركة شعبية مواطنة” قوية وفاعلة، تعمل من الأسفل إلى الأعلى، وتعيد للوسطاء الاجتماعيين والسياسيين مكانتهم، وتقاوم التيارات المستفيدة من استمرار التفاوتات.

في المحصلة، يكشف التحليل المزدوج أن أزمة الطبقة الوسطى في المغرب هي أبعد من أن تكون مجرد أزمة قدرة شرائية. إنها أزمة بنيوية تهدد النسيج الاجتماعي بأكمله، وتتطلب حلا مزدوجا: سياسات عمومية شجاعة ومنسقة من الأعلى، وحراك مجتمعي واع ومنظم من الأسفل. فالمعركة لإنقاذ الطبقة الوسطى هي في نهاية المطاف معركة من أجل الحفاظ على استقرار المغرب ونموذجه المجتمعي.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية