يشكل برنامج “مدارس الريادة” إحدى أبرز المحاولات الإصلاحية التي تشهدها المدرسة العمومية في المغرب، ليس فقط من حيث المقاربة البيداغوجية المعتمدة، بل من حيث الرؤية المجتمعية التي يتبناها، والتي تقوم على إشراك الجميع في مشروع جماعي يتجاوز حدود الفصل الدراسي نحو بناء مواطن الغد، فالبرنامج لا يُقدَّم كحل ظرفي لمعالجة أعطاب التعليم، بل كمخطط عمل لإعادة هندسة العلاقة بين المدرسة والمجتمع، وبين التعلم والتنمية.
من داخل الفصول الدراسية التي احتضنت البرنامج، تتغير ديناميات التعليم، حيث لم يعد التلميذ متلقيًا سلبيًا، بل محورًا لعملية تعليمية تراعي الفروق الفردية، وتعتمد التفييء داخل القسم إلى مستويات حسب درجة التحصيل، بغرض تقديم دعم مستهدف وفعّال.
كما يتم العمل بمنهجية دقيقة على تتبع التعثرات فور حدوثها، ومعالجتها بأساليب عملية، مع التركيز على المهارات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، من خلال مقاربة التدريس الصريح، التي تعتمد على الوضوح والتكرار المنظم والتدرج في بناء الكفايات.
في تصريح خاص لجريدة بلبريس، أكدت الأستاذة سلمى طالب بإعدادية الإمام علي بمدينة سلا، وهي من الأطر التربوية المنخرطة في البرنامج، أن “هذا المشروع جاء لتجاوز الاختلالات البنيوية التي راكمها النظام القديم، خاصة على مستوى تدبير التعثرات الدراسية.
حيث قالت المتحدثة: “اليوم، نحن لا ننتظر نهاية الدورة أو الموسم الدراسي حتى نكتشف مشكلًا في مستوى التعلم لدى التلميذ. المعالجة أصبحت فورية، ويجري تصنيف المتعلمين إلى ثلاث مستويات أو أكثر داخل الفصل بحسب حاجياتهم، وهو ما يتيح لنا التدخل بسرعة وبفعالية أكبر”.
وتضيف طالب: “نحن كأساتذة نتلقى تكوينات منتظمة في البيداغوجيا الفارقية، والتقييم التشخيصي، والتدريس المبني على الكفايات، وهو ما مكننا من إعادة تشكيل نظرتنا إلى مهنة التدريس. اليوم، لم نعد فقط ناقلين للمادة الدراسية، بل أصبحنا نشتغل كموجهين وميسرين وداعمين حقيقيين. هذا التغيير في التكوين ساعدنا على فهم أن نجاح التلميذ لا يُقاس بتقدم البرنامج، بل بمدى تمكنه من المهارات الأساسية في الزمن التربوي المناسب”.
وشددت المتحدثة على أن “برنامج مدارس الريادة لا يمكن أن يُختزل في حصة أو عدة حصص مدرسية، بل هو فلسفة مجتمعية تسعى لإعادة الاعتبار للتعليم كرافعة مركزية للتنمية. لهذا، لا يمكن أن ننجح وحدنا كمدرسين. الوزارة مسؤولة عن توفير شروط التعميم والتجهيز، والإدارة التربوية عن تأمين استمرارية الدعم، والأسر مطالبة بالانخراط الفعلي في متابعة تعلمات أبنائها، فيما الجماعات المحلية مطالبة بضمان الحاجيات اللوجستية، خاصة في المناطق الهشة، إذ أن الكل معني، لأن النهوض بالتعليم يعني النهوض بالمجتمع”.
وتم توسيع برنامج “مدارس الريادة” ليشمل حوالي 2000 مؤسسة خلال الموسم الدراسي 2024/2025، ويستهدف ما يقارب مليون و300 ألف تلميذ وتلميذة، أي ما يعادل 30% من مجموع التلاميذ في التعليم الابتدائي. هذا الرقم يعكس الرهان الكبير على البرنامج، لكنه أيضًا يفرض تحديات حقيقية على مستوى التعميم، خصوصًا في ما يتعلق بتأهيل الفضاءات التعليمية، ضمان استمرارية التكوين، وتوفير التجهيزات الرقمية، فضلًا عن استدامة آليات التقييم والتتبع.
وتشير الدراسات الأولية إلى تحسن ملحوظ في أداء التلاميذ في المواد الأساسية، خاصة اللغة الفرنسية والرياضيات، حيث سجل التلميذ المتوسط في مدارس الريادة نتائج تتفوق على حوالي 90% من أقرانه في المدارس غير المنخرطة في البرنامج، غير أن هذه النتائج تظل مشروطة بمدى قدرة المنظومة على الحفاظ على روح الإصلاح، وتفادي اختزاله في بعد تقني أو عددي فقط.
إن النجاح في التعليم لا يُقاس فقط بالمخرجات، بل بمدى تحول الثقافة التربوية داخل المؤسسات التعليمية. ومدارس الريادة، في جوهرها، تدعو إلى هذا التحول، شرط أن يلتف الجميع حولها، بمسؤولية، ووعي جماعي، وإرادة مشتركة في إنقاذ المدرسة المغربية من أعطاب الماضي.