0يشكل هذا المقال مجموعة خلاصات متعلقة بدراسة ميدانية مواكبة للمخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار )2030 PACTE ESRI( خلال كل أطوار بلورته الى حدود مرحلة تنزيله اعتمادا على تبادل رؤى مع أساتذة ومسؤولين ومهتمين من ذاخل و خارج المنظومة. الحاجة لهذا المقال أملتها مجموعة من المحددات مرتبطة كلها براهنية الاصلاح الجامعي وباشكالية الحيز الكبير المخصص له في النقاش العام على مستوى الشكل دون الغوص كثيرا في المضمون. ولتمكين المقال من منهجية الحياد الموضوعي الذي يتطلبه فضاء التعليم العالي وظرفية الدخول الجامعي 2023-2024 الذي يتزامن مع التنزيل الفعلي للمخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار )2030 PACTE ESRI(يحتاج كل المهتمين من داخل المنظومة وخارجها، على حد سواء، لمعرفة مواقع القوة والضعف والأخطار المحتملة وكذلك البدائل الممكنة. نحتاج جميعا وبكل تجرد لمعرفة درجة صلابة الأرضية التي تقف عليها منظومة التعليم العالي والإصلاح الجامعي الحالي ومستوى وضوح المستقبل للمنظومة وللاصلاح.
لا يمكن في البداية إلا أن نتفق مع الوزير عبد اللطيف ميراوي عندما يفهم من جل مداخلاته منذ ولوجه لقيادة القطاع أن ميكانيزم الإصلاح ليس هدفا في حد ذاته، بل آلية للنهوض بالتعليم العالي وأن الأهم في حقيقة الأمر هو الأهداف المسطرة والمنتظرة من وراء أي إصلاح كيف ما كان، والزمن الذي ستقطف فيه الثمار، لان الوقت عامل حاسم في عملية الاصلاح.
الدافع لتحرير هذا المقال في هذا التوقيت بالذات هو في حقيقة الأمر محاولة موضوعية للمساهمة بشكل إيجابي في السجال الدائر اعلاميا وفي بعض الدوائر المهنية والسياسية حول المنظومة والإصلاح وكذلك للارتقاء بالنقاش العمومي الخاص بالموضوع لمستوى الجدية التي نادى بها صاحب الجلالة نصره الله في خطاب العرش الأخير.
هناك إذن خطة عمل بجرأة عالية تم بدلها بدون توقف منذ تعيين الحكومة في أكتوبر 2021 من طرف وزارة القطاع بقيادة الوزير عبد اللطيف ميراوي، المشهود له بشجاعته في اختراق طابوهات عمرت لسنين طويلة بالتعليم العالي ولم يكن ممكنا لهذه الشجاعة أن تجد أمامها الورود المفروشة والقبول المطلق وكل السجال كان منتظرا وطبيعيا في سياق حراك مجتمعي ومنافسة سياسية بين مختلف الفرقاء. وعليه فاحدى المخاطر التي كانت مطروحة بقوة على الوزير الوصي على القطاع هو مدى التوفق في الحفاظ على الخاصية الوطنية لملف التعليم العالي، بعيدا عن التجاذبات السياسية المحتملة و التي قد تفقد مشروع الاصلاح نجاعته وسرعة اخراجه. ما يعطي اذن لخطة العمل المتواصلة للوزارة الوصية طابع الجدية التي قعد لها صاحب الجلالة نصره الله في خطاب العرش المجيد هو تمكنها من قيادة مسلسل إصلاحي طال انتظاره في زمن قياسي ليدخل حيز التنفيد مع بداية هذا الموسم الجديد.
بالاعتماد على مناهج الابحاث السوسيولوجية وبعيدا عن الغوص في أعماق التفاصيل التي باتت معروفة بالنسبة للجميع طرحت للنقاش مجموعة من المحاور المتعلقة بهذا الاصلاح وباهميته ونقط قوته وضعفه وضمانات الاستدامة لمخططاته على النحو التالي، أولا: حول خصائص الظرفية الحالية للتعليم العالي ببلادنا. تانيا: حول سؤال الضرورة واذا كان التعليم العالي ببلادنا يحتاج حقيقة لإصلاح جديد. تالثا: حول الجديد الذي حمله الإصلاح ومدى الأهمية والوقع على الاقتصاد والمجتمع. رابعا: حول سؤال معارضة الاصلاح المذكور وهل هناك ما يبررها ويعطيها المصداقية. خامسا: حول سؤال الاستدامة.
خصائص الظرفية الحالية للتعليم العالي
تجمع كل الاوساط الفاعلة والمهتمة بالتعليم العالي ببلادنا على أن الدخول الجامعي لهذا الموسم 2023-2024 يتميز بطابع الاستثنائية خصوصا مع الشروع في تنزيل مقتضيات المخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار )2030 PACTE ESRI(. تتجلى الاستثنائية في الصيغة الجديدة للإصلاح والتي لا يمكن اختزالها فقط في تطلعات الوزير عبد اللطيف ميراوي وافكاره الاصلاحية، وإن كان الامر تحصيل حاصل، بل بتطلعات وأحلام شاملة للمجتمع ينظر للإصلاح الحالي كفرصة بديلة بعد مسلسل من الاصلاحات المتعاقبة و التجارب المختلفة والتي لم توفر كما كان منتظرا أجوبة شافية على اشكالات الهدر الجامعي المتصاعد وعلى ضعف نسبة التأطير و اندماج الخريجين في سوق الشغل وعلى التموقع المحتشم لحكامة التعليم العالي والجامعات المغربية ضمن التصنيفات المحترمة عالميا و كذلك على غياب حكامة ناجعة للبحث العلمي. طابع الاستثناء يتجلى ايضا في كون العالم يغادر بسرعة فائقة زمن ما قبل الرقمنة للالتحاق بعصر الذكاء الاصطناعي و اقتصاد المعرفة بالبحث العلمي الذي يخلق التنمية ويطورها.والتعليم العالي والجامعات المغربية مدعوة بإلحاح لمواكبة هذه التحولات العالمية تماشيا مع ما تعرفه البلاد من تطور نوعي سريع وتموقع اقتصادي محترم على مختلف الواجهات قاريا ودوليا بفضل السياسة الملكية الرشيدة.
حول ضرورة الاصلاح الجامعي
كثير ممن تم التواصل معهم أو مناقشتهم من اساتذة باحثين واداريين وطلبة بكل الفصول الدراسية ومهتمين يجمعون على أن ضرورة الاصلاح لا جدال حولها بل هي مطلب مستعجل. وليس صدفة ان تكون المسالة التعليمية والبحث العلمي ببلادنا على راس الاولويات في الخطب الملكية السامية في عديد من المناسبات. خارطة الطريق في التصريح الحكومي والتقارير الصادرة عن هيئات دستورية، المجلس الأعلى للحسابات و المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي نموذجا، والتقرير العام الصادر عن هيئة النموذج التنموي الجديد أشارت كلها لضرورة النهوض بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار لتمكينه من لعب الأدوار المنتظرة مجتمعيا واقتصاديا ودوليا ومواجهة الأعطاب المتراكمة في التكوين والتأطير والحكامة والبحث العلمي بحلول معقولة تحقق شرطي الاستدامة والنجاعة وتنهض بالظروف المادية والمعنوية لجسم الاساتذة و الاداريين. ضرورة الاصلاح بشكل دقيق نابعة من ذاخل مؤسسات التعليم العالي التي تطمح لتجاوز مخاطر الركود على مستوى الابداع والابتكار ونجاعة البحث العلمي ولتقويم المناهج الدراسية لتتناسب مع الرهانات العصرية وحاجيات سوق الشغل. الجديد في الإصلاح والوقع المنتظر على الاقتصاد والمجتمع
كما نص على ذلك عرض “الاستراتيجية الحكومية لتجويد منظومة التعليم العالي والبحث العلمي” في كلمة رئيس الحكومة أمام البرلمان والتي يمكن الرجوع اليها للاطلاع على كم هائل من التطلعات الواعدة والاجراءات الشاملة القابلة للتنزبل للتحولات النوعية التي يتطلع اليها الاصلاح على مستوى التكوين والحكامة والبحث العلمي والابتكار والحياة الطلابية والتدرج المهني والانفتاح الدولي والحركية وادماج الكفاءات المغربية بالخارج والتحول الرقمي. اجمالا يمكن اعتبار مبادئ الانصاف والابتكار والتمكين لاجيال الطلبة للولوج السريع للمستقبل، بمهارات ناعمة وتكوينات ذامجة مهنيا واجتماعيا، وتحرير الطاقات وتعزيز القدرات لغة جديدة تغزو ادبيات التعليم العالي من خلال الاصلاح الجديد الذي يقوده الوزير عبد اللطيف ميراوي استنادا على التوجيهات الملكية السامية. الجديد المهم أيضا هو التطلع الى عدم السماح بمغادرة الطلبة للجامعة دون اكتساب ما يكفي من الكفايات والمهارات لتحقيق الذات والتمكن من الانذماج في النسيج الاجتماعي والاقتصادي. بموجب الاصلاح الجديد ايضا سيتم الارتكاز على بحث علمي يحقق التفوق الاكاديمي وهو مطلب ملح لعموم الاساتذة الباحثين بكل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي.
معارضة الاصلاح وسؤال المصداقية
يجدر بنا على هذا المستوى تناول سؤال معارضة الاصلاح المذكور والتحولات العميقة المواكبة له ،وهل هناك ما يبررها ويعطيها المصداقية، علما ان هذه المعارضة تأخذ أشكالا تتأرجح بين الطرح الموضوعي عندما تتعلق بمضمون الاصلاح والطرح الذاتي اللاموضوعي عندما تتعلق بانتقاد شخص الوزير. بكل تأكيد لن تمر كل هذه التحولات العميقة لمنظومة التعليم العالي دون اثارة نقاشات وسجالات ومد وجزر لانها حركت المياه الراكدة وزادت من جرعة إصرار الوزارة الوصية على التقدم في أرضية مليئة بالمخاطر. ولابد من باب الموضوعية الاشارة لكون المعارضة مبدئيا تشكل قوة تشاركية ضمنية وقوة دافعة للامام من خلال وظيفة النقد البناء والتنبيه لنقائص الامور و الانحرافات المحتملة ولا يمكن اجمالا انكار دورها المهم جدا في تحصين صناعة واتخاذ القرار.
فيما يتعلق بموضوع النموذج الاصلاحي الذي يقوده الوزير عبد اللطيف ميراوي يمكن تصنيف نوعين من المعارضة. الصنف الأول هو تلك المعارضة البناءة التي يعبر عنها الاساتذة الجامعيون باستقلالية تامة من خلال تنظيماتهم النقابية في التعليم العالي، بحكم الاختصاص، والتي ترتكز اساسا على الدعوة لاشراكهم كمعنيين بالدرجة الاولى في بلورة الاصلاحات لتجنب ان تكون فوقية لا علاقة لها بواقعهم. هذا النوع من المعارضة لا يمكن الا ان يكون بناء ومثمرا ومنبها للنقائص او الاخطار المحتملة. وقد اثبت الاساتذة الجامعيون عموما تشبتهم التلقائي بكل ما يرفع من قيمة الفضاء الذي يشتغلون ذاخله ويحسن ظروف اشتغالهم ويرفع من قيمة منتوجهم في التكوين والبحث العلمي والانفتاح. من وجهة نظر مقابلة، نجد قراءة أخرى لا تعتبر الاصلاح المطروح للتنزيل مخالفا لتطلعات الاساتذة او مغيبا لاشراكهم. فاللقاءات الجهوية المفتوحة التي عقدت بكل جهات المملكة الاثنى عشر بحضور الجامعات المعنية بعد اللقاءات الاعدادية والترتيبية بكل هذه الجامعات يشير بالملموس لحقيقة ان مهندسي النموذج الجديد للاصلاح لا يتصورون اصلاحا دون اشراك فعلي للمعنيين وهذا ما تم على ارض الواقع. ربما تكون هناك هشاشات تواصلية ذاخل الجامعات مرتبطة بسياستها التواصلية الذاخلية.
الصنف التاني من المعارضة، يشتغل من وراء أقنعة مختلفة، ويفهم من كل ما يحدث من تحركات طول مدة بلورة الاصلاح الجديد إن هذا الصنف يدافع بشراسة من أجل الحفاظ على مواقع ومصالح ريعية استفاذ منها خلال الوضع القديم وينظر للتوجه الجديد للوزارة الوصية على أنه تهديد لهذا الريع فتراه ينشر كل ما من شانه ارباك الاصلاح او التشكيك في نجاحه ليصل الحد لدرجة التشهير المنظم بالوزير الوصي باسلوب الشخصنة. وما يفقد هذا الصنف التاني من المعارضة ميزة الموضوعية هو انه لا يعير أي اهتمام لمضمون الاصلاح ولا لمخرجاته وهذا ما يضع المصداقية على محك المساءلة.
اجمالا، خلال ما يقارب السنتين من عمر الاصلاح الجديد، يمكن الحديث عن محطتين، المحطة الاولى الى حدود اخراج صيغة الاصلاح كانت هناك نسبة كبيرة من المعنيين المباشرين بموضوع الاصلاح وهم الاساتذة الباحثون الذين فضلوا التراجع لمسافات بعيدة عن السجال بخصوص الاصلاح والتفاعل بلغة الصمت المحطة التانية بعد صدور صيغة الاصلاح والمراسيم المتعلقة به تم رصد انخراط وقابلية نفسية كبيرة عند الاساتذة الجامعيين الذين لا تفصلهم الا أيام قليلة عن الشروع في التفعيل والتنزيل الفعلي.
سؤال الاستدامة
لا تنتهي مسؤولية ووظيفة هندسة الاصلاح الجديد بالشروع في تنزيله، فتحقيق الاستدامة هو المطلب الاساس الذي يستشرفه كل الفاعلين ولا تتحقق الاستدامة الا بالاستمرار في اشراك كل المعنيين وتكريس متواصل لكل مبادئ الكفاءة و الإنصاف وتكافئ الفرص والنزاهة والمصداقية.
ستخصص مقالات مقبلة لدراسة معمقة للمراسيم المتعلقة بالاصلاح من مختلف الأوجه بغية الاستمرار في المساهمة الايجابية المواكبة الرامية لتجويد منظومة التعليم العالي والتي من المتوقع أن تحظى مخرجات إصلاحها في صيغته الحالية وقعا قويا في قادم الايام بالنسبة للمجتمع والاقتصاد والمنافسة الدولية.
مجموعة من الاساتذة والعمداء من داخل المغرب ومن خارجه
.
موضوع التعليم العالي فعلا محتاج الى أكثر من رأي واهتمام أكثر من قبل الجميع، رغم أن المقال لا يتطرق للموضوع بدقة إلا أنه يشير الى موضوع مهم يميز المرحلة وهو : الخاصية الوطنية لملف التعليم العالي. إذ لا يعقل البحث عن حلول للقطاع خارج الوطن وأن الموضوع مسألة وطنية خالصة. نتمنى التوفيق