لم تكن نهاية المواجهة المباشرة بين ايران واسرائيل التي دامت أكثر من 11 يوما، مجرد وقف لإطلاق النار تم التوصل إليه بوساطة دولية، بل كانت لحظة فارقة كشفت عن مجموعة من الدروس الاستراتيجية العميقة التي ستعيد تشكيل مفاهيم الصراع في الشرق الأوسط.
فعندما انقشع غبار المعركة، لم تكن الحصيلة مجرد أهداف تم تدميرها او صواريخ تم اعتراضها، بل كانت حربا بدروس مكثفة في إستراتيجيات التواصل والجغرافيا السياسية والانتماء.
لنبدأ من النهاية، من قصف قاعدة العديد الأمريكية في قطر. كان هذا مؤشرا دالا على طبيعة الحرب بأكملها، فقد كانت أشبه ب’’مسرحية استراتيجية’’ محسوبة بدقة.
الضربة الإيرانية استبقها إعلان واضح، تماما كما استبق إعلان أمريكي ضربة المنشآت النووية الإيرانية.
بدا وكأن الطرفين أعلما بعضهما البعض تجنبا لخسائر بشرية فادحة ولتجنب كارثة نووية، فلم يتسرب أي شيء من مفاعلات نطنز وأصفهان وفوردو.
الضربة الأمريكية بدت كطبطبة على كتف إسرائيل لإسكاتها، مع علم واشنطن المسبق بجدواها المحدودة بعد أن قامت إيران بترحيل مكوناتها النووية الحساسة.
وجاء الرد الإيراني المتوازن على قاعدة العديد ليحفظ ماء الوجه، مع بيان دال يؤكد على أن قطر دولة شقيقة وأن المستهدف هو الوجود الأمريكي فقط.
الدرس الأول كان في مفهوم القوة نفسه
لقد اثبتت هذه المواجهة أن القوة في هذا العصر لم تعد تقاس فقط بحجم الترسانة العسكرية او تطورها التكنولوجي، بل بالقدرة على فرض معادلة ردع ذاتية وموثوقة.
بنت إيران، رغم عقود من الحصار، قدرة صاروخية اجبرت اسرائيل على استنزاف دفاعاتها الجوية الاكثر تطورا وكلفة في العالم، ودفعتها للاستنجاد المباشر بواشنطن.
الدرس هنا هو أن امتلاك القدرة على إيصال “الألم” الى عمق الخصم، حتى لو كان غير متكافئ تكنولوجيا، هو ما يخلق توازن الرعب ويجبر الأطراف على التفكير مرتين قبل بدء أي مواجهة. لقد انتقلت القوة من مفهوم الهيمنة الى مفهوم فرض التكلفة.
أما الدرس الثاني، فكان في ساحة التواصل والسرديات
كانت الحرب معركة شرسة لا تقل ضراوة عن ساحة الميدان. لقد رأينا كيف يمكن للتواصل السياسي المدروس ان يكون سلاحا فتاكا.
فمن جهة، حرصت إيران على تأطير كل هجوم كرد فعل مشروع على عدوان سابق، مستخدمة بيانات محسوبة وموجهة. ومن جهة أخرى، واجهت السردية الاسرائيلية تحديا كبيرا، حيث أدى تآكل خطاب “المظلومية” بسبب احداث غزة الى صعوبة حشد التعاطف الدولي بنفس الزخم المعتاد حتى من الغرب نفسه.
وفي قلب هذا، جاء استخدام الرئيس الامريكي لمنصات التواصل الاجتماعي كقناة رسمية لإدارة الأزمة واعلان نهايتها.
لقد دأب ترامب على إدارة الأزمة عبر منصته “تروث سوشيال” ثم “إكس”، مقدما درسا بليغا في أن من يمتلك سرعة الوصول والقدرة على صياغة الرواية أولا، يمتلك جزءا كبيرا من المعركة.
الدرس الثالث، وربما الأعمق، تجلى في قوة الانتماء الوطني
لقد فشل الرهان على تفكك الجبهة الداخلية الايرانية رغم كل الضغوط الخارجية والحملات الإعلامية التي تدخل في إطار حروب الجيل الخامس، والتي سعت لإحداث شرخ بين الشعب والنظام، بل حدث العكس تماما.
رغم كل البروباغندا التي مارستها إسرائيل وحلفاؤها، بقي الشعب متماسكا خلف قيادته. هذا تجريب حي على فشل إحدى آليات حروب الجيل الخامس التي تركز على استهداف الوعي الجمعي وشيطنة الأنظمة عبر التضليل وزرع الفرقة.
تجلت حالة من التماسك الداخلي والالتفاف حول القيادة في مواجهة الخطر الخارجي، بل إن الأزمة منحت للنظام الإيراني على علاته فرصة لا تعوض.
هذا يثبت ان حروب الجيل الخامس، التي تركز على استهداف إدراك الشعوب وتغذية الانقسامات، تفقد الكثير من تأثيرها عندما تواجه احساسا قويا بالهوية الوطنية والسيادة، وجيلا واعيا وصحافة قوية ومؤهلة لرصد التضليل وتحييذه عبر آليات التحقق وأولها التفكير النقدي.
الدرس الموجه لدول المنطقة واضح: الاستثمار الحقيقي ليس فقط في السلاح، بل في بناء الإنسان وتعزيز الجبهة الداخلية، وبناء هوية قوية تعزز الانتماء الحقيقي للوطن فهي خط الدفاع الأخير الذي لا يمكن اختراقه إذا سقطت كل الخطوط.
في الختام، قد تكون الصواريخ قد توقفت، لكن الدروس التي أطلقتها هذه المواجهة بدأت للتو رحلتها في عقول الاستراتيجيين وصناع القرار.
لقد كانت حربا قصيرة في زمنها، لكنها طويلة و عميقة في معانيها وتداعياتها.